الآن
وهي تحمل بين يديها حقيبة السّفر، تسير بخطوات ثقيلة لجسد لم تهدّه ميادين الحرب
والمواجهات العنيفة والمظاهرات التّي ما إن تنطلق سلميّة، حتّى تنتهي بتراشق
لحجارة ثمّ لرصاص، ينهي حياة أشخاص يغدون في حينها أرقاما مجرّدة، تتكفّل هي بنقل
صورهم حيّة مباشرة لعين المشاهد من خلف كاميرتها التي لم تفارق كتفها لأكثر
من عقدين، هي لم تصدّق أن بلدها الذي لا يهدأ له غبار، لم تمت بين رصاصه في لحظة
غادرة وهي تركض بين ملاويه الشّعثة بحسابات التّيارات السّياسية التي ما
همّها يوما حال الوطن، بل هدّته ديدان المرض الذي فاجأها على حين غرّة وأخذ ينخر
قولونها العصبي، ليخبرها الطّبيب أنها أصيبت بنفس مرض زياد زوجها الذّي رحل عنها
منذ خمسة عشر سنة تاركا خلفه جوعا لا منتاهيا إليه.
تتذكّر
كيف أكرمتهما الحياة بستّة أشهر إضافيّة، تقاسما فيها الحبّ والتّعب، الموت
والحياة قبل أن يغادرها للأبد..
ها هو نقر
خطواتها المتعبة على أرضيّة المطار، يحمل إليها صوت زياد ويسحبه من دهاليز
الذاكرة وهو يقول لها بنبرة غائرة في التّعب والأسى: "حرام أن أعذّبك
معي، لنفترق يا زهرتي، فلا فائدة من زواجنا"
فتجيبه
بمباركات الأهل وفستانها الأبيض وهي تطوّق ذراعه بشدّة كما تطوّق القلادة مدار
العنق.
لم تشأ أن
تقتله قبل أن يقتله المرض...
تردّ
وتقول: لا أريد يا زياد أن تمهلني الحياة ستّة أشهر لآتي إليك، أريد أن أعانقك،
أن أعانقك الآن يا زياد"...
لو لم
يلتف حولها القريب والبعيد، لو لم يحاوطها الأخ والصّديق، لقصرّت إليه الطريق،
لكنهم دفعوها للعلاج وهي الآن تنتظر طائرة السّفر..
يشق
شرودها موكب الوزير، تتذكّر حجم اللقاءات التي أجرتها معه، سمعته وهو يكرّر
شعاراته ذاته التي سئمتها منه.
في ذات
الحين، بحين موعد ركوبها الطائرة، تغمض عينيها، تستجمع قواها وهي تردّد: على هذه
الأرض ما يستحق أن أعيش لأحاربه، "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"!